/ الفَائِدَةُ : (25) /
14/04/2025
بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / إِطْلَاقَات عناوين ومُصطلحات الحُجِّيَّة / / للحُجِّيَّةِ أَنواعٌ وأَنْمَاطٌ مُتعدِّدة / هناك مَبْحَثٌ خطيرٌ وحسَّاسٌ ومُهِمٌّ جِدّاً، وقد أَكَّدَت عليه بيانات الوحي ، حاصله : أَنَّه ينبغي للباحث والمُسْتَنْبِط التَّفَطُّن إِلى أَنَّ للحُجِّيَّةِ مَعَانِي وأَصْنَافاً وَأَنْمَاطاً مُتعدِّدة ، ولا ينبغي لهما الظَّنّ أَنَّ حقيقة الحُجِّيَّة أَو مراتب الحُجَج علىٰ وتيرة وحقيقة فاردة ، بل لِكُلٍّ منها كُنْه ودور يختلف في تحصيل المعرفة وإِدَائها . ومن هذه الحُجَج : 1ـ الكاشفيَّة ؛ فالبيان والدَّليل المُوجِد والمُحدِث للفهم يُقال له : (حُجَّة) . 2ـ البرهان التَّام والبيِّنة الَّتي لا لبس فيها (1). 3ـ الوسيط ؛ أَي : قناة الإِيصَال ؛ فَمَا أُلْقِيَ ونفس المتن المُبيِّن للحقائق ـ ويُصطلح عليه في العلوم العقليَّة بـ : الوسيط البرهاني المستلزم للنتيجة ـ يُقال له : (حُجَّة) أَيضاً . 4ـ الْمُلْقِي والفاعل للبيان والدَّليل؛ أَي: العَالِم والمُعَلِّم(2)؛ فالمُلْقِي والفاعل للبيان والدَّليل يُقال له: (حُجَّة) أَيضاً. 5ـ الشَّاهد والمُراقِب. 6ـ المُرَبِّي. 7ـ والمُتلَقِّي والمُتَعَلِّم والمُنفعِل والقابل للبيان والدَّليل ؛ فما يفهمه من البيان والدَّليل يُقال له : (حُجَّة) أَيضاً. 8ـ المُنجزيَّة والمعذريَّة. 9ـ المولويَّة. وهذا التَّعَدُّد الحاصل في حقيقة الحُجِّيَّة ومراتبها ليس بلحاظ أَفرادها ومصاديقها ، بل في سِنْخِها ونمطها وطبيعتها ، ومن ثَمَّ تُلاحِظ أَنَّ الأُصولي الواحد في عِلْمِ أُصول الفقه يختار للحُجِّيَّة معنىً في مبحث القطع ، ويختار لها معنىً آخَر في مبحث الحُجَح ، ويختار لها معنىً ثالثاً في مبحث الأُصول العمليَّة ، وهلمَّ جرّاً . وهذا ليس اِضطراب ، بل اِضطرار من قِبَلِ الباحث ؛ كيما يُعطي للحُجِّيَّة تفاسير مُتعدِّدة ؛ لِاختلاف أَنواعها ، ولكي يكون لِكُلِّ مبحثٍ ما يناسبه من معنىٰ . وبعبارة أُخرىٰ : أَنَّ إِطلاق اليقين الحُجَّة لا ينحصر استعماله علىٰ درجةِ الإِذْعَان والقطع الحاصلة لدىٰ الُمتَـيَقِّن ـ إِنْ كان منشأه سديداً وصواباً مطابقاً للحقيقة ـ ، بل يعمُّ نفس الدَّليل، بل ويعمُّ أَيضاً أَسباب الإِذْعَانِ ومُقَدِّمات البيان والدَّليل ، ومن ثَمَّ ورد في بيانات الوحي؛ كذَمّ لبعضِ الأُمم : وصف إِذْعَانهم وقطعهم وجزمهم بمعتقدهم ظنّاً مُتَشَابِهاً . فلاحظ : بيانات الوحي ، منها : بيان قوله تعالىٰ المُقتصّ لخبر بني إِسرائيل : [وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا](3). فأَطلق (جلَّ قدسه) علىٰ قطعهم بقتلهم للنَّبيِّ عيسىٰ عليه السلام ظنّاً مُتَشَابِهاً ؛ وذلك لِاستنادهم إِلى أَسباب ومُقَدِّمات لا تستلزم النتيجة الْحَقَّة بنحو الضَّرورة . فنفي اليقين في المقام ليس بلحاظ الإِذْعَان، بل بلحاظ عدم توفُّر السَّبب المُستلزم للشيء المزعوم بالضَّرورة. وعلیٰ عکسه بیان قوله جلَّ وتقدَّس : [وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ](4). وبیان قوله تقدَّس ذكره : [وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ](5). فإِنَّهما برهانان وحيانيَّان أَطلقا عنوان (الحُجِّيَّة) علىٰ ذات ما أُلْقِىَ ، وهو السَّبب والمُقدِّمة المُورِثة لليقين ، فرغم أَنَّه لم يحصل لأَصحاب القرون الأُولىٰ ولا لفرعون الجزم والإِذْعَان بتلك البيانات الوحيانيَّة والمعاجز الإِلٰهيَّة ولم يُؤمنوا ولم يعتقدوا بها ، لكن مع هذا أَطلق سبحانه وتعالىٰ عليها عنوان البيان والبرهان والحُجِّيَّة مع أَنَّها مُقدِّمات وأَسباب لذلك. ثُمَّ إِنَّ الفلاسفة وتبعهم المناطقة اِقْتَبَسُوا هذه الِاستعمالات من بيانات الوحي واِستعملوها. هذا وقد خالف اِصطلاح جمهور علماء أُصول الفقه في القرون الثَّلاثة المُتأخِّرة وخَصُّوا الحُجِّيَّة الذَّاتيَّة بدرجة الإِذْعَان والجزم ؛ فاسندوا الحُجِّيَّة للقطع لا لليقين. والحقُّ وما عليه بيانات الوحي والتَّحقيق : أَنَّ حُجِّيَّةَ الإِذْعَان والجزم والقطع ليست ذاتيَّة ، ولا تدور ـ الحُجِّيَّة ـ مدار شِدَّة الإِذْعَان وضعفه. نعم ، المُرتكز لديهم : أَنَّ عنوان ( الحُجِّيَّة) يُطلَقُ أَيضاً علىٰ أَسباب ومُقَدِّمات النتيجة والإِذْعَان ـ وإِنْ كان جعلهم لعنوان القطع كمدارٍ في الحُجِّيَّةِ لا يُفيد ذلك ـ ؛ ومن ثَمَّ ذهبوا في مسألة قَطْع القَطَّاع : إِلى أَنَّ المدار في الحُجِّيَّةِ ليس علىٰ قطعه ، بل علىٰ أَسباب ومُقدِّمات القطع إِنْ كانت مُنتجة ، ولها الصلاحيَّة لأَن يُستند إِليها ، وإِلَّا ـ أَي: لو كان المدار علىٰ القطع بما هو قطع وإِذْعَان، لا علىٰ الأَسباب والمُقَدِّمات الصَّائبة والسَّديدة ـ لزم الحُكُم بمُعذِّرِيَّة كُلّ قاطِعٍ بعقيدةٍ ورؤيةٍ خاطئةٍ وفاسدةٍ . لكنَّه بَاطَل بالوجدان وبالضَّرورة الوحيانيَّة والعقليَّة . فإِذا بَطَلَ التَّالي فالمُقدَّم مِثْله، ومن ثَمَّ يلزم مناقشته ومعاتبته بلحاظ الأَسباب والمُقدِّمات الَّتي أَوصلته إِلى هذه النتيجة. ويُضاف إِلى ما تقدَّم : ما ورد في بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ في دعاء كميل : «... فَبِاليَقِينِ اَقْطَعُ ...»(6). فإِنَّه برهانٌ وحيانيٌّ دالٌّ علىٰ جملةِ حِكَمٍ عِلْمِيَّةٍ ، منها : أَنَّ اليقينَ يُغاير القطع ، وهو أَحَد مُستندات القطع لا العكس . وحاصل تلك المُغايرة : أَنَّ اليقينَ فعلٌ من أَفعال القوى الإِدْرَاكِيَّة العِلْمِيَّة لدىٰ النَّفس ، بخلاف القطع ؛ فإِنَّه جزمٌ وتسليمٌ وتصديقٌ واِنْقِيَادٌ ومتابعةٌ ، وهذه أَفعال للْعَقْلِ الْعَمَلِيِّ، والوظيفة الأَصليَّة : في باب الإِيمان والإِسلام والتَّسليم، والهداية، والتَّصديق، والكفر والضَّلال . وبحثُ : الإِيمان والإِسلام، والتَّسليم، والهداية، والتَّصديق، والكفر والضَّلال بحثٌ في أَفعال الْعَقْل الْعَمَلِيّ . وهذا البحثُ قد اِلتَبَسَ في جملةِ من تحريراته : الفقهيَّة والكلاميَّة والفلسفيَّة ؛ بسبب دمج ابن سينا بين اليقين والقطع ، وهو ما وَلَّدَ الِالتِبَاس والِاشْتِبَاه لجحافل قوافل الفلاسفة وغيرهم إِلى يومنا هذا. وهذا بخلاف ما ذهب إِليه الفارابي ، ومن قَبْلِهِ سُقْرَاط وأَفَلَاطُون وأَرِسْطو؛ فإِنَّهم فرزوا بينهما. وعليه : فالقطع تارة يكون باليقينِ ، وأُخرىٰ بغيره ؛ يحصل من أَسباب ومُقدِّمات ومناشئ لا تصلح لأَنْ تكون مُورِثةً لليقينِ . إِذَنْ : الأَسباب والمُقدِّمات والمناشئ المُنْتِجَة للكشف التَّام والمطابقة للحقيقة والواقع هي المُوْرِثَة للحُجِّيَّةِ الذَّاتيَّةِ ؛ وهي حُجِّيَّة اليقين ، وإِلَّا فَلَا. وهذه من البحوث المُسْتَجِدَّة الَّتي لم تُحرَّر في عِلْمِ الأُصول بشكلٍ دقيقٍ . وعليه : يلزم إِصْلَاح عنوان الحُجِّيَّة الذَّاتيَّة وأَنَّها لليقين لا لمُطلق القطع . وبالجملة : أَنَّ أَبحاث هذا الِاختلاف السِّنْخِي والماهوي غير مستوفاة ، ومسيره الْعِلْمِيّ لا زال يحتاج إِلى إِنجازات وتحرِّيات وتحقيقات عِلْمِيَّة كثيرة . وسبب أَكثر الإِخفاقات والإِثَارَات الحاصلة لبعض الباحثين : تَوَهُّمهم وظنَّهم وتصوُّرهم وَحْدَة معاني الحُجِّيَّة ؛ وعدم تعدُّدها . وصلى الله على محمد واله الاطهار . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الحُجِّيَّة والتَّعبُّد بهذا المعنىٰ نور. وعليه : فلماذا ينكفئ أَصحاب الفلسفة والمنطق والحداثويُّون وَمَنْ شاكلهم عن بيانات الوحي!! أَوَ ليس هم القائلون : «إِذا جاء الِاحتمال بَطَلَ الِاستدلال» ، وما يُذكر في بيانات الوحي أَلَا يُوَلِّد الِاحتمال!! وما بال المُلَّا صدرا حصر حُجِّيَّة الدَّليل النَّقلي ودليل التَّعبُّد باليقين والتَّصديق والحال أَنَّ التَّصوُّرَ جوهرةٌ عظيمةٌ وثمينةٌ جِدّاً في البحوث الْعِلْمِيَّة والْمَعْرِفِيَّة والوصول إِلى الحقائق والنتائج الْحَقَّة ، بل مَنْ يُزحزح الجهل المُركَّب غير التَّصوُّر والِاحتمال، ويا لها من ثمرةٍ عظيمةٍ ؛ فإِنَّ أَكثر جهل البشريَّة من هذا السِّنْخ . (2) هذا مقام عظيم لأَهْلِ الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ غفلت عنه مدارس البشر الْمَعْرِفِيَّة . وهذا ما يُوضِّح سبب اِنكفاء الفلاسفة ومن جرىٰ علىٰ شاكلتهم عن بيانات الوحي . وبالجملة : نَصَبَ الباري (جَلَّ شأنه) جملة طَوَاقِم من المُعَلِّمين : أَحدها : الأَنبياء والأَوصياء والأَصفياء عليهم السلام ، رأس هرمهم سيِّد الأَنبياء وسائر أَهْل الْبَيْتِ من أَصحاب الدَّائرة الاِصطفائيَّة الأُولىٰ ثُمَّ الثانية عليهم السلام ؛ فإِنَّهم يُحْدِثُون عِلْماً ليس بمقدور ومُكْنَة سائر البشر ـ لولاهم ـ التَّوَصُّل إِليه . ثانيها : عموم المؤمنين المُشَار إِليهم في بيانات الوحي ، منها : بيان قوله جلَّ قوله : [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [آل عمران: 104]، والمصداق الأِجلىٰ لهذا البيان الوحيانيُّ الشَّريف : أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ من أَصحاب الدَّائرة الاِصطفائيَّة الأُولىٰ ثُمَّ أَصحاب الدَّائرة الاِصطفائيَّة الثانية. ثالثها : الفقهاء المُشار إِليهم في بيانات الوحي أَيضاً ، منها : بيان قوله عزَّ من قائل : [فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] [التوبة: 122] . (3) النساء : 107 . (4) يونس : 13 . (5) القصص : 31ـ 32 . (6) إِقبال الأَعمال ، 3: 336